كتبت راغدة درغام في “النهار العربي”:
مساوئ الترتيبات الانتقالية والموقتة لمعالجة وضع خطير ومعقّد ومأسوي كالذي في غزة، أن لا غنى عن الرضوخ لإملاءات مُرعِبة أخلاقياً وميدانياً، قد تهدّد بنسف التفاهمات التهادنية. وقف إطلاق النار الدائم ما زال مُستبعداً في هذه الفترة، لأنّ إسرائيل أبلغت الوسطاء، بالذات الولايات المتحدة، أنّها تحتاج حتى منتصف شهر كانون الأول (ديسمبر) الجاري، لاستكمال مهمّتها، وعزمها على إخراج أو تدمير قيادة حركة “حماس” لقطاع غزة.
تقدير الخبراء الاستراتيجيين وأولئك المقرّبين من فكر “حماس”، هو أنّه فيما إسرائيل لا تتمسّك بالاستمرار بترتيبات الهدنة التي تمّت بجهود رئاسية أميركية ومصرية وقطرية، فإنّ “حماس” تفضّل إطالة الهدنة للاستمرار بمقايضة السجناء والرهائن. الفارق بين الموقفين هو أنّ “حماس” ترى في إطالة الفترة الانتقالية فرصةً لإعادة تنظيم صفوفها، لا سيّما أنّها لا تمتلك الآن القدرة والقوة العسكرية الميدانية لاستعادة المبادرة العسكرية. أما إسرائيل، فإنّها أوشكت على تحقيق أهدافها، حسبما تدّعي، وهي تريد إطلاق سراح جميع الرهائن قبل إسدال الستار على تحكّم “حماس” بقطاع غزة، ولذلك استأنفت القتال.
الرئيس الأميركي جو بايدن وجد نفسه مُجبراً على الموافقة الضمنية لاستئناف إسرائيل إطلاق النار، لا سيّما وأنّ حجتها كانت إطلاق “حماس” الصواريخ انتهاكاً للهدنة، بحسب مزاعمها. وجد الرئيس الأميركي نفسه بين نقيضين: رعايته سوياً مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي وأمير قطر الشيخ تميم بن حمد بن خليفة لاتفاق هدنة وتبادل الأسرى والسجناء بين إسرائيل و”حماس”، لاقى ترحيباً عالمياً لأنّه أوقف النزيف وإبادة المدنيين، معظمهم من الأطفال والنساء الفلسطينيين. هذا من جهة.
من الجهة الأخرى، وجد الرئيس بايدن نفسه يوافق على استئناف إسرائيل القصف والتدمير لغزة بهدف تدمير البنية التحتية لحركة “حماس”، معرباً في الوقت ذاته- عبر أركان إدارته- عن الأمل بأن تراعي إسرائيل أوضاع المدنيين، ويتبنّى جيشها نهجاً أكثر حذراً، إذا ما وسّع هجومه لجنوب القطاع. بكلام آخر، يبدو أنّ إسرائيل أقنعت الولايات المتحدة أنّها تحتاج لأسبوع أو عشرة أيام لتوطيد المنطقة الأمنية في شمال غزة تحت سيطرتها، ولدفع “حماس” إلى خارج شمال قطاع غزة، إما نحو جنوبه، أو نحو الضفة الغربية، أو إلى أيّة دولة عربية مستعدّة لاستقبال القيادة.
تطورات الضفة الغربية بحدّ ذاتها تشكّل مصدر قلق لإدارة بايدن التي تعمل مع المعنيين وبعيداً من الأضواء نحو التوصّل إلى خطّة لاستقرار سياسي في غزة، تتطلّب بالضرورة تعاون “السلطة الفلسطينية” التي تتخذ من الضفة الغربية مقرّاً لها. وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن قام بزيارة ثالثة إلى إسرائيل والضفة الغربية، ساعياً وراء ضبط التوتّر بما في ذلك حضّ إسرائيل على اتخاذ خطوات فوراً لمحاسبة المستوطنين المتطرّفين على العنف في الضفة الغربية.
مشكلة واشنطن هي أنّ الكونغرس يتربّص للبيت الأبيض ويطالب بمحاسبته، إذا بدت الإدارة أنّها أقل تعاطفاً مع إسرائيل الحليف المدلّل الذي يبقى فوق المحاسبة. هذه معضلة معقّدة، لا سيّما في سنة انتخابية حامية.
تطورات حرب غزة ركّزت الأضواء على قيادة الرئيس بايدن، وسرقت من الرئيس الأسبق دونالد ترامب جزءاً من تسليط الأضواء عليه. البعض يرى أنّ أداء بايدن في موضوع حرب غزة قد يعطيه النقاط التي يحتاجها، لا سيّما إذا نجح في منع توسّع حرب غزة إلى حرب إقليمية أو دولية. إنما هناك رأي آخر يصرّ على أنّ ترامب كان حذقاً بتجنّب الانخراط في موضوع غزة، وأنّ أيّة حصيلة سياسية من حرب غزة ستبقى انتقالية، وبالتالي لن يتمكن جو بايدن من تكرار النجاحات الكبرى على نسق ما أنجزه الرؤساء الأميركيون قبله مثل “كامب ديفيد”، على سبيل المثال.
أركان إدارة بايدن يراهنون على نقلة نوعية تؤمِّن للرئيس تلك اللحظة التاريخية، لذلك انّهم لا يكتفون بالترتيبات الانتقالية، وإنما يعملون على تسوية دائمة ويتواصلون مع دولٍ فاعلة في منطقة الشرق الأوسط لتأمين النجاح المرجو لجهود الحل الدائم.
الشركاء المهمّون في هذا المسعى هم الدول العربية والإسلامية الذين تمثلهم اللجنة الوزارية التي شكّلتها قمّة الرياض الأخيرة، إضافة الى الدول العربية التي طبّعت مع إسرائيل، وفي مقدّمتها دولة الإمارات. هذا إضافة إلى الدول التي لها نفوذ مع “حماس” مثل قطر ومصر وتركيا وإيران، وبالطبع إسرائيل والسلطة الفلسطينية.
اللجنة الوزارية برئاسة وزير خارجية السعودية الأمير فيصل بن فرحان تحرّكت في عواصم الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن، وخاطب أعضاؤها مجلس الأمن الدولي في نيويورك بزخم وتنسيق وصدقية. وشارك وزير خارجية قطر رئيس مجلس الوزراء الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني في جلسة مجلس الأمن، نظراً للدور الرئيسي الذي تلعبه قطر في الهدنة بين “حماس” وإسرائيل، كما كحلقة وصل وتفاهم بين الولايات المتحدة وإيران.
وعقد أعضاء اللجنة اجتماعاً رسمياً مع رئيس المجلس للشهر الجاري وزير خارجية الصين وانغ يي في نيويورك، بمشاركة رئيس وزراء قطر وأعضاء اللجنة، وزراء خارجية الأردن أيمن الصفدي، ومصر سامح شكري، وفلسطين رياض المالكي، وتركيا هاكان فيدان، ووزيرة خارجية أندونيسيا ريتنو مارسودي، والأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط، إلى جانب وزير خارجية ماليزيا زمبري عبد القادر، ووزير الدولة الإماراتي خليفة بن شاهين المرر ممثل المجموعة العربية في مجلس الأمن.
قد يُقال إنّ اللجان والاجتماعات والخطب لن تجدي طالما الدول العربية والإسلامية تحجب أدوات التهديد والعقاب لإسرائيل إزاء استمرارها في انتهاك القوانين الدولية وقواعد الحرب لحماية المدنيين، وطالما تنفّذ عملياً فرض التهجير القسري من غزة كأمر واقع.
لعلّ تلك الإجراءات تصبح ضرورة إذا استمرت إسرائيل برفض الإذعان للضغوط الأميركية والدولية. إنما الآن، ليس في وسع اللجنة الوزارية سوى المضي باستخدام نفوذها ووزنها السياسي والاقتصادي، العربي والإسلامي، لاستنفاد المساعي الرامية لترغيب إسرائيل بوقف النار والقبول بحلّ الدولتين مقابل التعايش والتطبيع معها. فهدف اللجنة الوزارية المكلّفة من قمّة الرياض هو ضمان أقصى ما يمكن من الحقوق الوطنية للفلسطينيين، وإيجاد تسوية دائمة وعادلة، وليس دقّ طبول الحرب لتوسيعها وتوريط الجميع فيها.
الصين كانت هذا الأسبوع عنواناً مهمّاً وبارزاً في تحرّك اللجنة الوزارية، نظراً لرئاستها لمجلس الأمن، كما لأنّ اللجنة الوزارية كانت اختارت الصين أولى محطات زياراتها إلى عواصم الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن. هدف اللجنة الوزارية ليس أبداً تحجيم الدور الأميركي المركزي والحيوي لإقناع إسرائيل بأي تغيير في نهجها- بل لفرض مثل هذا التغيير إذا استدعت الجرأة ذلك. الهدف هو توسيع حلقة الدول التي في أياديها أدوات النفوذ مع إسرائيل. فبين الصين وإسرائيل علاقات متطورة تهمّ الطرفين. ثم انّ الصين لعبت دوراً مهمّاً في تحويل العلاقات السعودية- الإيرانية بعيداً من المواجهة ونحو الاتفاق. اضافة إلى ذلك، انّ دخول الصين طرفاً داعماً لجهود تسوية شاملة ودائمة برعاية أميركية، قد يكون عامل تحسين العلاقات الثنائية بين العملاقين اللذين يريدان الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط والخليج.
روسيا جاهزة للمساعدة لكنها لا تريد استعادة دورها التقليدي في رعاية مشتركة مع الولايات المتحدة، ثنائية، وضرورية جداً في الماضي في زمن الحرب الباردة والاستقطاب. اليوم، روسيا لا تمانع “الاستقالة” من مرتبة الرعاية المشتركة ولا تمانع المساعدة في عدم توسيع رقعة النزاع. فروسيا لن تعرقل المساعي الأميركية لإيجاد تسوية شاملة ودائمة وعادلة، وهي تدرك أنّ مساعدتها في إنجاح الجهود الأميركية قد يكون لها مردوداً إيجابياً في نهاية المطاف.
أوروبا مستعدة لأن تركب القطار الأميركي نحو تسوية مستدامة في الشرق الأوسط، فهي تريد أن تكون في المقعد الخلفي، لأنّ الجلوس في مقعد القيادة يجب أن يكون أميركياً، أولاً، نظراً لخصوصية العلاقة الأميركية- الإسرائيلية، وثانياً، لأنّ للقيادة كلفة غالية، أوروبا ليست مستعدة أن تغامر بها وسط حربها مع روسيا ودعمها لأوكرانيا.
كل هذا يترك إدارة بايدن في موقف حرج للغاية، وسط رأي عام منقسم داخل الولايات المتحدة، ووسط انقسام داخل إسرائيل ومؤشرات إلى تطرّف في الرأي العام الإسرائيلي يحضّ على الانتقام وليس على التعايش والتسوية. يُضاف الى ذلك، أنّ الانقسامات الفلسطينية- الفلسطينية لا تساعد في التوصّل إلى عتبة الاختراق التاريخي الضروري للتسوية الكبرى.
الجديد الذي قد يفيد ويجسّد الطموحات بتسوية شاملة ودائمة هو الانخراط العربي والإسلامي وتكليف اللجنة الوزارية بمهمّة شاقة، لكنها ليست مهمّة في حلقة مفرغة.
الجديد هو العزم السعودي والخليجي على مساهمة نوعية في معالجة هذا الملف، الذي قد يهدّد التطلعات الرؤيوية لمنطقة الخليج العربي، بدلاً من ترك إملاءات المشرق مشروعاً مفتوحاً على نكسة للمشاريع والتطلعات.
الجديد أنّ الجمهورية الإسلامية الإيرانية شاركت في قمّة الرياض العربية- الإسلامية ولم تعترض على بيان ختامي أكّد حلّ الدولتين- دولة فلسطين ودولة إسرائيل.
الجديد أنّ 7 تشرين الأول (أكتوبر) كان حدثاً مذهلاً، وما تبعه قدّم للعالم إسرائيل لم يكن يعرفها. فلم تقتصر الإدانة الشعبية العالمية على “حماس” وإنما طالت إسرائيل، بسبب انتهاكاتهما لقواعد الحرب واحتجازهما الأطفال رهائن وسجناء واستخدامهما المدنيين سلعة في حروبهما.
ما زلنا في المرحلة الانتقالية الخطرة، إنما لم نفقد بعد فرصة التوصّل الى مرحلة التسوية التاريخية، مع أنّ الطريق ما زالت محفورة بالمصاعب والمطبّات. فنحن نتحدّث عن الشرق الأوسط حيث التعقيدات من تربة المنطقة