الجراح وشقير إلى القضاء العدلي… فهل تسقط فعلياً الحصانات؟
كتبت لوسي بارسخيان في “نداء الوطن”:
تكرّ سبحة التطوّرات في الملفات القضائية التي فتحت حول وزارة الإتصالات، لتهتزّ معها عروش وزرائها المتعاقبين الذين تحصّنوا خلف حصاناتهم لسنوات طويلة، فمرّروا الصفقات التي كبّدت الخزينة العامة ملايين الدولارات، من دون أن يتسبّب لهم ذلك سابقاً في أي قلق من إمكان ملاحقتهم قضائياً وبالتالي محاسبتهم.
أصدر قاضي التحقيق في بيروت فريد عجيب الأسبوع الماضي قراراً يتيح للقضاء العدلي ملاحقة وزيري الإتّصالات السابقين جمال الجراح ومحمد شقير، والتحقيق معهما في شكوى جزائية مقدّمة بحقّهما من قبل رئيس مجلس إدارة «تاتش» سابقاً وسيم منصور، بصفته مالك سهم في شركة «تاتش». وكانت هذه الشكوى قد رفعت أمام قاضي التحقيق الأول في بيروت بتاريخ 27 تشرين الأول من العام 2020، ويظهر من خلالها منصور الوثائق والمستندات التي تثبت تزامن عمليتي إستئجار وشراء البلوكين B وC من مبنى City Development مع تأسيس شركتيْن تثيران شبهات حول تقاضي أشخاص منافع غير مشروعة لقاء مساهمة محتملة منهم في إبرام الصفقتين، وحول هندسات قانونية من أجل إخفاء المنافع غير المشروعة، بما يشكّل تبييضاً للأموال. يأتي هذا التطوّر بعد أشهر قليلة من صدور تقرير ديوان المحاسبة وتحديداً في شهر آذار الماضي، والذي فنّد المخالفات والإرتكابات التي شابت صفقة استئجار شركة MIC2 («تاتش») مبنى «قصابيان» في الشياح، من دون إشغاله، وصفقتي استئجار ومن ثمّ شراء البلوكين B وC من العقار رقم 1526 في مبنىCity Development في الباشورة، وعدم تملّكهما بالرغم من المبالغ الطائلة التي بُدّدت في ذلك. وقد نشأت عن تقرير الديوان أيضاً قرارات اتّهامية موقّتة سطّرتها غرفة ديوان المحاسبة القضائية الناظرة في قضية المبنيين خلال شهر أيار من العام الجاري، ووجّهت الإدانات لستّة وزراء متعاقبين منذ العام 2012 تورّطوا مباشرة أو بشكل غير مباشر بصفقاتهما.
سابقة قد تسمح بسجن المدانين!
والتطور القضائي الأخير، وفقاً للمتابعين، يستدعي التنويه بخطوة قاضي التحقيق الأول، خصوصاً أنّه يؤكد إختصاص القضاء العدلي في ملاحقة الوزراء ومحاكمتهم بملفات تتعلّق باستغلال موقع المسؤولية، مقلّصاً من الحصانة التي يحاول هؤلاء الإختباء خلفها من خلال الإصرار على حصر هذه الملاحقة بالمجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء، «وهو مجلس غير مشكّل عملياً حتى ينعقد لإتمام هذه الملاحقات»، كما توضح المصادر المتابعة.
كما تكمن أهمية هذا التطوّر في ما يمكن أن يشكّله من سابقة تتيح المحاسبة، وتتخطّى أحكام التغريم المالي للوزراء المعنيين والمتورّطين في الشبهات المدّعى بها، إلى محاكمتهم بالسجن أو غيرها من العقوبات الموازية لأفعالهم. وهذا، وفقاً للمتابعين، يحمّل القرار مفاعيل رادعة لأي ارتكابات مستقبلية، ويمهّد لفتح ملفات وزراء آخرين في وزارات مختلفة، تحصنّوا بصفتهم لتجنّب المحاسبة طيلة سنوات الهدر والفساد الماضية.
هذا مع العلم أنّه مع صدور قرار القاضي عجيب، تكون قد ذلّلت آخر العراقيل الشكلية التي حالت منذ أكثر من سنتين ونصف دون مباشرة التحقيقات في الوقائع المثبتة بالوثائق في الشكوى المقدّمة من قبل منصور.
وكما أنّ قرار قاضي التحقيق جاء محصّناً بتقرير ديوان المحاسبة الذي مضى في المسار القضائي لمحاسبة الوزراء المتعاقبين على وزارة الإتّصالات. كما أنّ الشكوى التي تقدّم بها منصور وحرّكت المجتمع المدني الناشط في ملاحقة ملفات الفساد لدى انطلاق ثورة 2019، أثارت أيضاً اهتمام ديوان المحاسبة. وقد وضع الديوان في تقريره المعدّ حول صفقتي مبنيي «تاتش» ملاحظات دعا الجهات القضائية والنيابية الى التوسّع بالتحقيقات حولها، وخصوصاً لجهة تنازل شركة «ديفلوبمنت» عن بدلات إيجار المبنى المحدّدة في عقدها مع «تاتش»، قبل أن يوقّع هذا العقد، ولجهة شراء المبنى وبيعه للجهة نفسها خلال الفترة القصيرة التي فصلت بين استئجار المبنى من قبل «تاتش» ومن ثم شرائها، ولجهة منح «فرنسبنك» قرضاً بمبلغ 22 مليون دولار لشركة لا يتجاوز رأسمالها 30 مليون ليرة. وأيضاً لجهة ضمان الجهة البائعة ديون الجهة الشارية لمبناها.
«المجلس الأعلى» غير مختصّ بالإستغلال الوظيفي
للتذكير، فإنه قبل تضمين ديوان المحاسبة تقريره لهذه الشكوى، كانت الدفوع الشكلية التي تقدّم بها وكلاء الوزيرين المدّعى عليهما من قبل منصور قد استغرقت فترة طويلة، محاولة تأمين ظروف تهرّبهما من المحاسبة من خلال نفي صفة المدّعي أولاً، ومن ثم بعد تثبيت هذه الصفة قضائياً أيضاً، من خلال التحصّن بصفتهما الوزارية، وتأكيد خضوعهما لأحكام المواد 70 و71 و80 من الدستور، والتي تعتبر أنّ صلاحية ملاحقة الوزراء تعود للمجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء وليس للقضاء العدلي.
إلا أنّ القاضي عجيب ثبّت بقراره الأخير «أن صلاحية المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء تشمل فقط الأعمال التي تدخل مباشرة بممارسة مهامهم، في حين أن الأفعال الجرمية المدّعى بها، أي الرشوة والاختلاس وصرف النفوذ واستثمار الوظيفة وتبييض الأموال، هي من الأفعال التي تأتي نتيجة لاستغلال الوزير موقعه الوزاري، والتي يقوم بها بمعرض ممارسته مهامه الوظيفية، بقصد إحلال مصلحته الخاصة مكان المصلحة العامة، من دون أن تكون في صلبها، وهي تالياً تبقى من صلاحية القضاء العدلي». وكان هذا ما أكّد عليه أيضاً مجلس شورى الدولة في قضية أخرى تتعلّق بملاحقة وزير الأشغال السابق محمد الصفدي، من خلال رفضه ما اعتبره «تفسيراً تعسّفياً» للمادة 70.
إزالة العقبات الشكلية والذرائع
وانطلاقاً من هنا، تعتبر المصادر المتابعة أنّ أهمية قرار قاضي التحقيق الأخير تكمن أيضاً في إزالته عقبات شكلية وذرائع كانت لا تزال راسخة للحؤول دون تحوّل هيئة القضايا في وزارة العدل إلى مدّع أول وأساسي في هذه القضية باسم الدولة اللبنانية. هذا في وقت تعتبر المصادر المعنية أنّ المتابعة المباشرة لهذه القضية من قبل هيئة القضايا ستشكّل دعامة أساسية لضمان استعادة حقوق الدولة، خصوصاً أنّ الشكوى التي يرفعها منصور، تهدف إلى حماية المال العام، وبالتالي تتخطّى المصلحة الشخصية للمدعي، من خلال الإصرار على كشف السمسرات والصفقات التي أدّت الى هدر هذا المال. أما الخطوة التالية المرتقبة، وفقاً للمتابعين، «فهي أن يستأنف الوزيران المعنيان القرار الصادر عن قاضي التحقيق. إلّا أنّ ذلك لا يوقف مسار القضية، والتي يبدو أنها شقّت طريقها باتجاه التحقيق في الشبهات التي تضمّنتها، بعدما كانت الجهود القضائية قد أتاحت الظروف والوقت لدفوعات شكلية حاولت تجريد المتقدّم بالشكوى من حقه في الإدّعاء، بدلاً من المسارعة للتثبّت من الإتهامات التي تضمّنتها هذه الشكوى بحقّ المدّعى عليهما، وهو ما أخّر المسار القضائي في هذه القضية حتى الآن، من دون أن يثبط عزيمة من تسلّحوا بالحقائق والوثائق، أو يخضعهم للإبتزازات والضغوطات التي تعرّضوا لها».