“قضية التيكتوكرز”… عصابة “أخطبوطية” وجريمة تتوالى فصولها

لبنان مايو 11, 2024

كتبت زيزي إسطفان في “الراي الكويتية”:

جريمة بفضائح كثيرة لم ينكشف منها حتى الآن سوى رأس الجبل الأسود الذي يَطفو فوق عالم مافيوي ووقائع صادمة وشبكاتٍ عنكبوتية وضحايا بعمر الورود.

الجريمة أو «أمّ الجرائم» التي قضّت مضاجعَ اللبنانيين أخيراً عُرفت بـ «عصابة التيكتوكرز».. أما فضائحها الكثيرة فتعود إلى التسريبات المتضاربة حول التحقيقات وما بدأ يحيط بها من شكوك وملابسات.

فرغم الاضطراب الاجتماعي الذي يَدهم لبنان نتيجة الخواء السياسي وتفكُّك الدولة والانهيار المالي – الاقتصادي، فإن انكشافَ أمر «عصابة التيكتوكرز» وجرائمها بحق الأطفال القصّر واغتيال براءتهم وابتزازهم كان صادماً وصاعقاً، إذ وضع اللبنانيين وجهاً لوجه أمام حقائق مأسوية ساحتها مواقع التواصل الاجتماعي وضحاياها المحتملون فلذات أكبادهم!

تتدحرج الأسماء وتتكشف الوقائعُ المروّعة، وكان يكفي جرأةُ قاصر واحد وأهله بالادعاء وكشْف المستور لتكرّ السبحة وتنفضح العصابة. فحتى الآن بات هناك 7 أطفال قصّر ادعوا أمام الهيئات القضائية المختصة وتقاطعتْ إفاداتهم لتساهم في الوصول إلى عدد من المتورّطين الذين تم إلقاء القبض على 10 منهم (آخرهم محامٍ وموظف في إحدى المدارس والبلديات) فيما لا يزال العدد الأكبر الذي يقال إنه يصل إلى 30 شخصاً أو أكثر خارج قبضة العدالة وهم من جنسيات عدة.

كل يوم تتكشف أعدادٌ جديدة للضحايا من القصّر وأسماء لمتورطين من داخل الحدود اللبنانية وخارجها. فالقضية ليست ابنة ساعتها كما بات معلوماً، ويُحكى أن عدد الضحايا يصل إلى نحو 300 ممن تم الاعتداء عليهم على مدى ستة أعوام أو أكثر، وسط معلومات عن أن بيروت خاطبت الأنتربول الدولي لاقتفاء أثر لبنانيّين يُشتبه في أنّ أحدهما الرأس المموّل للعصابة.

(ج.م.) هو مزيّن شعر وصاحب صالون وقد شكّل واحدةً من الواجهات للعصابة ذات الامتدادات المتعددة. إذ يتابع حسابَه على تيكتوك أكثر من 600000 شخص ويقوم بتسريحاتِ شعرٍ غريبة وقصات تجتذب المراهقين، ويتبارى مع مزيّن مُنافِس لاستدراج المزيد من المتابعين.

صالون (ج.م.) في منطقة شعبية تعجّ بالناس، خرج اسمه الى العلن بعد إخبارٍ تَقَدَّمَ به أحد القصّر إلى الجهات الأمنية وموثّق بالصوت والصورة عن عمليات ابتزاز من أحد أفراد العصابة. ومعه تَكَشَّفَ وجودٌ عدد من المراهقين من مشاهير «التيكتوك» الذين زُج بهم لاستدراج القصّر وتقديم الوعود لهم بالشهرة وإظهارهم في «اللايف» وبمغريات أخرى. كما برز إسم صاحب أحد محلات بيع الألبسة ليتم بعدها توقيف طبيب أسنان عقب اتهامه من ثلاثة قاصرين بالتحرش بهم بعد وعوده لهم بتجميل أسنانهم.

الاعترافات كما الكشف عن الهواتف وما تحويه من فيديوهات واتصالات بيّنتْ أن ثمة متورطين يقيمون في بلدان أخرى، ومعروفون بأسماء وهمية، وأن الرأس المدبر للعصابة لبناني يعيش في الخارج في مطلع عقده الخامس ويدير أمور العصابة عن بُعد عبر أرقام هواتف تتجدّد باستمرار، كما كان طلب إلى كل مَن يشغّلهم باتباع الأسلوب نفسه حتى لا يتم كشف «داتا الاتصالات».

وفي حين تم إغراء الضحايا القصّر ببعض الهدايا المادية البسيطة مثل قَصة شعر أو ملابس أو تقديم الوعود لهم بالمشاركة في حفلات يظهرون من خلالها «لايف» أو بتصوير إعلانات، كان يَجْري استدراجهم أيضاً عبر حساب وهمي لفتاة تَعِدهم بلقاءات معها. وذكرت التقارير الأمنية أنه كان يجري اصطحاب هؤلاء الضحايا إلى شاليهات وفنادق وشقق في بيروت وجبل لبنان حيث كان يتم اغتيال براءتهم وإجبارهم على تعاطي المخدرات فيما كان يجري تصويرهم من أجل ابتزازهم بعد ذلك حتى لا يفضحوا الأمر وليقوموا بدورهم باستدراج سواهم.

جريمة تمتد إلى عالم «الانترنت الأسود»

وكأن فظاعة الجريمة في ذاتها لا تكفي ولا تُرْضي الميول المنحرفة عند المتورطين، إذ كان يتم تداول الفيديوهات المصورة للضحايا وربما بيعها عبر الإنترنت الأسود كما تشير بعض المصادر، وهذا ما يفسّر عملية «تسفير» بعض الضحايا أو «بيْعهم» إلى الخارج لقاء مبالغ مالية تراوح بين 5000 و20000 دولار.

وفي هذا السياق تواصلت «الراي» مع الخبير في الأمن الرقمي رولان أبي نجم، الذي كان أول مَن حذّر مِن وصول هذه الفيديوهات والصور إلى الـ Dark web وهو المساحة السوداء في الإنترنت التي تَجمع كل المنحرفين والعصابات وتتم عبره أعمال إجرامية وممنوعات كجرائم الاتجار بالبشر وتجارة السلاح وغيرها…

ويصعب الدخول إلى «الانترنت الأسود» كما يشرح أبي نجم إلا عبر محرّكات خاصة وVPN خاص «وكون الإنترنت المظلم مساحة لكل المنحرفين، يمكن للفيديوهات التي تم تصويرها للأطفال الضحايا أن تُباع بمبالغ كبيرة ما يعني أن ثمة أموال طائلة يتم جنيها عبر هذه العصابة».

وفي رأي أبي نجم أن استدراج القصّر تمّ عبر مواقع التواصل المعروفة من خلال استخدام ما يُعرف بالـ SOCIAL ENGENEERING أي باختراق هواتف الضحايا وإرسال روابط معينة أو فيروسات على هواتفهم لاستخراج صور لهم وابتزازهم، أو كما حدث مع العصابة باستخدام حسابات مزيّفة لاستدراج المراهقين إلى حيث كان يتم التعرض لهم.

شهادات حية

ذَكَرَ أحد الشهود أنه كان يرى العديد من المراهقين يدخلون إلى إحدى الشقق في المبنى الذي يسكنه ومعهم أشخاص بالغون تتخطى أعمارهم 40 سنة، وقد استغرب وجود صغار في السنّ مع هؤلاء لكنه لم يشك بشيء ولم يَفهم ما يدور إلا بعد دهْم القوى الأمنية للمكان.

أما عن صالون الحلاقة فتروي إحدى الأمهات أن ابنها البالغ 12 عاماً أصرّ عليها أن تصطحبه إلى الصالون المذكور للحصول على قَصة شعر مميزة. فرافقتْه وجلستْ تنتظره لكنها لم تشعر مطلقاً بالراحة في أجواء أحست بأنها لا تشبهها وأنها مثقلة بأمور لم تستطع تحديدها. مظهر المزين و«أكسسواراته» وطريقة كلامه المصطنَعة وتودُّده غير المبرَّر للصغار واستراقه للنظرات إلى هاتفه أمور أزعجتْها، وحين غادرت الصالون مع إبنها بادرها أحد معارفها بالقول: «ألم تجدي سوى هذا المنافق المنحرف لتصطحبي إبنك إليه؟».

بين مراقبة غائبة وواقع صعب

المختصون بشؤون التكنولوجيا والخبراء النفسيون وقوى الأمن الداخلي اللبناني كلهم يرفعون صوتاً واحداً مطالبين الأهل بمراقبة أطفالهم، ويقدّمون النصائح النفسية والتقنية لمراقبة حسابات الأبناء والتحكّم بما يمكنهم مشاهدته وتقديم التوعية الكافية لهم لحماية أنفسهم على مواقع التواصل الاجتماعي. ولكن وبحسب المعطيات التي تكشفت فإن غالبية الضحايا هم من فئة المراهقين، وهي الفئة التي تتمرّد أصلاً على سلطة الأهل، كما تقول الإختصاصية في علم النفس الاجتماعي غريس كرم لـ «الراي»، وتسعى لفرض نفسها من خلال التميّز في مظهرها أو تصرفاتها كما من خلال الانتماء إلى مجموعات تشبهها.

من جهة أخرى يبدو أن غالبية هؤلاء القصر، سواء ضحايا أو متورطون، هم من فئات شعبية ويبحثون عن فرصة للشهرة تُخْرِجُهم من واقع مادي واجتماعي صعب يتخبطون فيه وتمنحهم الفرصة لكسب مادي هم في أمسّ الحاجة إليه. وقد لا يملك الأهل في كثير من الأحيان الوعي الكافي والمعرفة لتحذير أبنائهم من أخطار مواقع التواصل أو ربما يدفعون بهم للبحث عن الشهرة الفارغة على «تيكتوك» طَمَعاً بجني المال أو رغبةً في التباهي بإنجاز ما وسط الواقع المحبط الذي يعيشونه.

كذلك بيّنت الدراسات الخاصة بعلم النفس السيبراني، أي العلم الذي يدرس تأثير الفضاء الرقمي على سلوك البشر، أنه كلما إزداد إدمان المراهقين على مواقع التواصل الإجتماعي ازداد تَعَرُّضهم للجرائم الإلكترونية، وكلما ازداد استخدام التكنولوجيا ازدادت معها الجرائم السيبرانية والواقعية وازدادت خطورتها على الأفراد والمجتمعات، وذلك وفق مجموعة من الأبحاث أعدها أساتذة في جامعة الفيوم في مصر.

انعكاسات على الحاضر والمستقبل

ويبقى الأخطر في هذه الجريمة الشنيعة الانعكاسات النفسية والعقلية والاجتماعية السلبية التي ستتركها على الأطفال دون أدنى شك. وقد ظهرت أولى آثار هذه الانعكاسات بحسب ما تم تسريبه من معلومات في المواجهة الأولى بين الأطفال والمعتدين التي تمت بحضور مختصين نفسيين ومندوبين عن حماية الأحداث. فقد أبدى أحد الأطفال من ضحايا الجريمة خوفاً شديداً وأراد الهروب فيما بدأ القاصر الثاني بالبكاء والصراخ قائلاً في وجه المعتدي «دمّرتلي حياتي، خربتلي بيتي».

وما هذا إلا الجزء الظاهر من جبل التأثيرات النفسية وفق ما تؤكد الاختصاصية غريس كرم، إذ أن الجريمة لم تقتصر على ناحية واحدة بل طالت إلى جانب الاعتداء الابتزاز والتهديد بفضح أمرهم أمام أهلهم وأصدقائهم وإلى العلن، وهذا ما زاد من خوفهم ورعبهم ويمكن أن يدفع بهم مستقبلاً لعيش حالة من التراجع الاجتماعي والانزواء وحتى التفكير بالانتحار. ويضاف إلى ذلك جريمة إجبارهم على تعاطي المخدرات «ومعروفة آثار هذا الأمر على الصحة والحياة».

نتيجة كل ذلك خرجت أصوات في لبنان تطالب بمنع «تيك توك» أو حجْب حسابات فيه ومراقبة حسابات أخرى، حتى أن نقابة المحامين أصدرت قراراً منعتْ فيه المنتسبين إليها من استخدام هذا التطبيق.

وفي هذا الصدد يرى الصحافي والخبير في مواقع التواصل الاجتماعي عمر قصقص عبر «الراي» أن هذه الأصوات غير منطقية «والجريمة التي كان موقع (تيك توك) واجهةً لها، كان يمكن أن تحدث على أي موقع آخَر أو حتى على أرض الواقع. أما مراقبة الحسابات ووقفها فلا يتم إلا في دولة بوليسية ولا يمكن للبنان الذي يتغنى بالحريات حجب تطبيقات معينة والعودة سنوات إلى الوراء».

ويضيف: «يمكن للقوى الأمنية في حال تقديم شكوى من متضرر أن تقوم بمراقبة حساب معيّن، ويمكن للقاضي المختص إثر ذلك أن يطلب وقف الحساب. أما مراقبة كل الحسابات فأمر غير ممكن، ووحده الوعي المجتمعي قادر على نبْذ المحتوى النافر والهابط. وتبقى مراقبة الأهل لحسابات أولادهم وتوعيتهم منذ الصغر على المخاطر، ومشاركة المدارس والجامعات في التوعية الضامن الوحيد لحمايتهم بنسبة عالية».

وسألت «الراي» الخبير في مواقع التواصل إذا كان ثمة إشارات حمراء في جريمة «التيكتوكرز» كان بالإمكان أن تنذر بوجود خطر؟ فأجاب: «يصعب على الأجهزة الأمنية ولا سيما مكتب مكافحة الجرائم الإلكترونية مراقبة كل الحسابات ومَن يتابعها ويقوم بالتعليق أو الإعجاب على كل محتوى فيها ولا سيما أن العصابة كانت تعمل عبر أشخاص معروفين. ولكن ما أن تم تقديم شكوى حتى تحرّكت الأجهزة الأمنية لتراقب وتَشْبك الخيوط ببعضها لتتوصل إلى نتائج. والأهم من ذلك أن الاعتقالات التي تمت وضعتْ أجهزة هواتف المعتقلين في عهدة القوى الأمنية التي تمكّنت من خلالها من معرفة جميع الأرقام التي تَواصَلَ معها المتَّهَمون سواء داخل لبنان أو خارجه وبالتالي بدأ الكشف عن المتورطين وبدأت الأسماء تكشف».

«الراي» تواصلت مع الخبير في متابعة أخبار «تيك توك» طوني خياط الذي يتعامل مع الموقع بطريقة كوميدية ويكشف مبالغاته، حيث قال: «ما اكتشفته من خلال متابعتي أن ثمة مبالغات كبيرة تحدث عبر (تيك توك) على أساس»خالِف تُعرف«ولكنها تبقى ضمن إطار التهريج والضحك. فنحن نرى ما يودون إظهاره لنا ولا نعرف ما يَحدث خلف الكواليس. ولا شك في أن (تيك توك) عالم غريب، والخطورة فيه أن الشَر الذي كان موجوداً أصلاً في المجتمع بات يجد وسيلةً سهلة لاجتذاب الآخرين. والخطورة دخول الأطفال بلا تفكير أو وعي أو حماية إلى هذا العالم الذي يمكن ان يقدّم محتوى منحطاً بقدر ما يمكن أن يقدم محتوى مفيداً وراقياً. لكن يبقى الأهم توعية الأهل لأبنائهم بعدم الانجرار إلى لعبة»اللايف«وعدم الردّ على أشخاص لا يعرفونهم أو إعطاء أي معلومات شخصية وصور لأي حساب كان، وأن يغلقوا خاصية الرسائل ويكونوا حذرين جداً في التعاطي مع (تيك توك) وكل وسائل التواصل الاجتماعي، وأن يدققوا في الحسابات التي يتابعها أولادهم».

وتابع: «ما حصل شكل صفعة لنكون أكثر وعياً وحذراً لأن هذا هو الحل الوحيد. أما إقفال التطبيق فليس بالأمر المنطقي. هو وسيلة يمكن استخدامها للخير والشر ولطالما كان هناك أشخاص منحرفون ولديهم أفكار شريرة في كل مكان».

المصدر : الراي الكويتية

:شارك الخبر