الإقتصاد الأزرق… هل يبقى حبراً “أسوَد” على ورق؟
كتبت كارين عبد النور في “نداء الوطن”:
زمن تحطيم لبنان للأرقام القياسيّة في عدّادات التراجع على جميع الأصعدة يسير على قدمٍ وساق. واحتلاله المرتبة الثالثة عالمياً ضمن قائمة البلدان الأكثر تلوّثاً، بحسب تقرير “World of Statistics” الصادر منتصف الشهر الحالي، آخر «التجلّيات». يأتي التصنيف بُعيد صدور التقرير السنوي حول الواقع البيئي للشاطئ اللبناني للعام 2023. التقرير الصادر عن المركز الوطني لعلوم البحار عاد وأكّد تلوّث عدد كبير من الشواطئ اللبنانية، بحسب مؤشرات التلوّث البكتيري. فهل من يستغرِب ويتحرّك؟
تناسُل أزمات النفايات وتلوّث الهواء من المسلّمات في بلد الأرز. وثمة من اعتاد على ذلك فعلاً وقولاً. لكن تلوّث مياه الأنهار والشواطئ بات هو الآخر يهدّد بشكل جدّي حياة اللبنانيين كما الثروة البحرية على كافة المستويات. يحصل ذلك في وقت يتّجه العالم إلى الاقتصاد الأزرق من أجل الاستخدام المستدام لموارد البحار والمحيطات كوسيلة لتحقيق نموّ اقتصادي واجتماعي أفضل. فما هو الاقتصاد الأزرق المستدام وهل سيتمكن – في حال تبنّي تطبيقاته – من انتشال لبنان الغارق بشتى أنواع الملوّثات السياسية والاقتصادية والبيئية؟
المستشارة في الاستدامة الساحلية والبحرية، فيرا نون، أشارت في حديث لـ»نداء الوطن» إلى أن مفهوم الاقتصاد الأزرق المستدام اكتسب اهتماماً عالمياً بعد انعقاد مؤتمر الأمم المتحدة في ريو دي جانيرو في العام 2012 (Rio+20). وهو «نموذج اقتصادي يهدف إلى تلبية حاجة الإنسان لاستخدام المحيط وموارده الطبيعية من أجل تحسين سبل العيش وتلبية الحاجة للحفاظ على هذه الموارد وصحة النُظم البيئية، أي قيام توازن بين عوامل ثلاثة: الإقتصاد، البيئة والإنسان».
أين أصبح القانون؟
على الصعيد العالمي، وضعت الأمم المتحدة مجموعة من الأهداف العالمية للتنمية المستدامة من ضمنها «الحياة تحت الماء». وفي العام 2021 قامت بإطلاق «عقد علوم المحيطات» الممتدّ حتى العام 2030 وغايته دعم الابتكار والبحث العلمي لتحقيق هدف تنمية الاقتصاد الأزرق المستدام والحفاظ على التنوع البيولوجي البحري. أما مفهوم «تخطيط الحيّز البحري»، وبتعريف لجنة علوم المحيطات لليونسكو، فهو «عملية تحديد وتنظيم استخدام المناطق البحرية عبر توجيه الأنشطة البحرية والساحلية بهدف تحقيق توازن مستدام بين التطوير الاقتصادي وحماية البيئة لتحقيق مستقبل أفضل للأجيال الحالية والمستقبلية». هذه المفاهيم مجتمعة، إضافة إلى الإدارة المتكاملة للمناطق الساحلية، التي تُعتبر مصدراً لحوالى 80% من ملوّثات الشواطئ والبحار، تشكّل الركائز الأساسية للاقتصاد الأزرق المستدام.
أما إقليمياً، فلبنان من الدول التي وقّعت على اتفاقية برشلونة في العام 1976 الهادفة إلى تعاون دول ساحل الأبيض المتوسط للحفاظ على البيئة البحرية والساحلية، وذلك وفقاً لبروتوكولات عدّة، نذكر منها: مكافحة التسرّب النفطي، مكافحة تلوّث النفايات البحرية، حماية الحياة البحرية والنُظم البيولوجية، الحماية من التلوّث النيتروجيني والفوسفوري الناتج عن الزراعة، تنظيم التنقّل البحري والإدارة المتكاملة للاستخدام الساحلي. فأين لبنان من هذه البروتوكولات؟ «بعد التوقيع على اتفاقية برشلونة، أصبحنا ملزمين بتطبيق البروتوكولات المصادق عليها وتحويلها إلى قوانين. مثلاً، بعد العام 2017، عملت وزارة البيئة بالتعاون مع معهد البيئة في جامعة البلمند على تطوير قانون للإدارة المتكاملة للمناطق الساحلية لكننا ما زلنا ننتظر إقراره في مجلس النواب»، كما تجيب نون.
أنشطة كثيرة… وعيٌ محدود
ندع القوانين (أو غياب تطبيقها، بالأحرى) جانباً ونسأل نون عن النشاطات التي يمكن ممارستها على أرض الواقع تماشياً مع مقومات الاقتصاد الأزرق. في لبنان، تتوزّع الأنشطة البحرية على قطاعات مختلفة، بدءاً بقطاع السياحة حيث هناك الأنشطة الساحلية كالمطاعم والفنادق (التي تتعدى بمعظمها على النظم الإيكولوجية الساحلية والبحرية)، والأنشطة الرياضية كالغوص والتجديف، إضافة إلى البيئية التي تعتمد على المحميات الطبيعية. انتقالاً إلى قطاع الطاقة الذي يرتكز على معامل إنتاج الطاقة الممتدة على طول الساحل اللبناني إضافة إلى عمليات التنقيب عن النفط والغاز. من جهته، ينحصر نشاط قطاع النقل البحري والشحن في مرفأي بيروت وطرابلس ولا يزال بحاجة إلى تطوير منشآته وعملياته. في حين أن قطاع صيد السمك يعاني من بعض الممارسات غير القانونية رغم تصنيفه بالصيد الحرفي.
كذلك، تشكّل بعض القطاعات فرصة لتطوير النمو الأزرق المستدام غير أنها تحتاج إلى مزيد من السياسات الداعمة مثل قطاع الآثار الساحلية والبحرية المغمورة بالمياه والذي يُعدّ إرثاً ثقافياً وفرصة لدعم الاقتصاد السياحي. بالإضافة إلى قطاع البحث العلمي الذي يعتبر عاملاً أساسياً لجذب لاستثمارات الخارجية. هذا وتلفت نون إلى ضرورة تنظيم النشاطات هذه كافة، وتوفير استراتيجيات شاملة تربط الاستخدامات البحرية في ما بينها وتنظّم عمل الوزارات المعنية. أما غياب الوعي البيئي لدى المواطنين والسياسيين على السواء، كما نقص الاختصاصيين الذين يتمتّعون بنظرة شاملة حول الاقتصاد الأزرق، ثمّ الاستهتار البيئي الناجم عن الوضع القائم في البلد، فجميعها عوامل زادت الطين بلّة.
الشاطئ اللبناني يستغيث
نعم، المعوّقات كثيرة… لكن يبقى تلوّث المياه التحدّي الأبرز أمام تطوير وتعزيز الاقتصاد الأزرق لو أردنا يوماً أن يزدهر في لبنان. والمشاكل تبدأ تحديداً من الساحل. من المكبات العشوائية ومخلّفات القطاعين الزراعي والصناعي كما الصرف الصحي والنفايات البلاستيكية وغيرها، التي تصبّ جميعها هناك على الشواطئ. وهذا ما ذهب إليه التقرير السنوي حول الواقع البيئي للشاطئ اللبناني للعام 2023، بعد أن قام المركز الوطني لعلوم البحار بأخذ عيّنات من 37 محطة ثابتة تمتدّ على طول الشاطئ من العريضة شمالاً إلى الناقورة جنوباً.
المحطات هذه شملت المسابح الشعبية، جوار مصبات الأنهر، شواطئ عامة وخاصة إضافة إلى الشواطئ القريبة من المعامل ومصبات المجاري. أما الهدف فهو دراسة مؤشرات التلوّث البكتيري ونسب المستعمرات البكتيرية (العقديات والقولونيات البرازية) وفق المعايير المعتمدة من قِبَل منظمة الصحة العالمية منذ العام 2003. وقد جاءت النتيجة على الشكل التالي: 22 موقعاً جيداً جداً إلى جيد؛ 9 مواقع حذرة إلى حرجة وغير مأمونة؛ و6 مواقع ملوثة إلى ملوثة جداً.
حال المواقع
نتعمّق في تفاصيل التقرير. فالمواقع الصالحة للسباحة الـ22 هي تلك التي تتميز بتدنّي التلوث البكتيري والعضوي. ومنها: شاطئ طرابلس بجانب الملعب البلدي، شاطئ أنفة أسفل دير الناطور، الشاطئ الشعبي في سلعاتا، الشاطئ الشعبي في عمشيت، شاطئ البحصة الشعبي في جبيل، شاطئ المحمية الطبيعية في صور والشاطئ الشعبي في عدلون.
أما المواقع الحذرة والحرجة التسعة، فهي تلك التي تتعرض للتلوّث من وقت لآخر، حيث سُجّلت نسب متوسطة من التلوّث البكتيري في مياهها ما جعلها غير صالحة للسباحة. ومن بينها شاطئ القليعات في عكار الذي ساءت نوعية المياه فيه مؤخراً بشكل ملحوظ إثر تلوّثه بالنفايات الصلبة لا سيما البلاستيكية منها، إضافة إلى حرق دواليب الكاوتشوك في الأرض الملاصقة له لاستخراج شرائط النحاس. كذلك هناك شاطئ عين المريسة في بيروت الذي تراجعت حالة المياه فيه من جيدة إلى حذرة مقارنة مع العام الماضي بسبب رمي النفايات الصلبة من قِبَل روّاده. في حين أن أبرز المواقع الستة الملوّثة إلى الملوّثة جداً التي وصلت نسبة البكتيريا البرازية في مياهها إلى مستويات أعلى من المسموح بها، فهو شاطئ الرملة البيضاء الشعبي في بيروت. مع العلم أن هذا الشاطئ الذي يقصده حوالى 20 ألف شخص يومياً، تنبعث منه رائحة كريهة جداً، إذ تصبّ فيه ثلاثة مصبات كبيرة للصرف الصحي من شماله حتى جنوبه.
تحسُّن وتراجُع
بالأرقام أيضاً، وفي مقارنة سريعة مع العام الماضي، انخفض عدد المواقع البحرية الصالحة للسباحة بأمان من 24 إلى 22 موقعاً. كذلك الأمر بالنسبة لعدد المواقع البحرية الملوّثة وغير الصالحة للسباحة إذ سجّلت تراجعاً من 7 إلى 6 مواقع. في حين ارتفع عدد المواقع المصنفة حذرة إلى غير مأمونة من 6 إلى 9 مواقع.
هذا وتدهورت نوعية المياه بشكل كبير وتحوّل التصنيف من جيد جداً إلى حذر في كل من شاطئ عين المريسة في بيروت، الشاطئ الشعبي في الغازية والشاطئ الشعبي في الصرفند. كما تراجعت نوعية المياه من جيد جداً إلى جيد في كل من الشاطئ شمال مصب نهر الأولي في موقع الأولي وشاطئ الدامور ذي المنفعة الخاصة. بالمقابل، وفي تطور إيجابي، تحسّن التصنيف من جيد إلى جيد جداً في الشاطئ العام في البوار وشاطئ أسفل شير الصفرا. أما شاطئ البحصة العام في البترون، فتحسّن تصنيفه من حذر إلى جيد.
المسؤولية مشتركة
للغوص في إمكانية إيجاد الحلول تحسيناً لنوعية مياه البحر، تواصلت «نداء الوطن» مع المستشار الإعلامي في الحركة البيئية، مصطفى رعد، الذي لفت إلى أن معالجة ملف الصرف الصحي وإقامة محطات على طول الشاطئ اللبناني والمناطق الداخلية كافة، إنما هما خطوتان أساسيتان للحدّ من تلوّث الشواطئ. «للأسف، التجاذبات السياسية وتقاعس البلديات عن القيام بدورها كما غياب رقابة الوزارات، جميعها عوامل أوصلتنا إلى رمي نفايات الصرف الصحي السائلة مباشرة في البحر دون أي معالجة في الكثير من الأحيان»، كما يقول.
في السياق عينه، أعلنت وزارة البيئة في حزيران الماضي (بمناسبة اليوم العالمي للبيئة) عن إطلاق مشروع جديد لاستدامة خدمات معالجة مياه الصرف الصحي في لبنان بالتعاون مع الاتحاد الأوروبي واليونيسف. وهو مشروع سيعيد تشغيل 11 محطة رئيسية لمعالجة مياه الصرف الصحي في كافة المناطق حيث ستقوم الحركة البيئية اللبنانية بمتابعة حسن سير العمل فيه. رعد تطرّق إلى المسؤولية التي تتحملها البلديات، خاصة تلك التي تقوم برمي نفايات الصرف الصحي في الأنهار التي تصب في البحر. كما دعا إلى توحيد إدارة محطات الصرف الصحي والتي تتولّى مسؤوليتها حالياً مصالح المياه في المحافظات.
مياه الصرف الصحي، بالطبع، ليست السبب الوحيد وراء تلوّث الشواطئ. فحدّث ولا حرج عن النفايات الصلبة من بلاستيك وثياب وورق وزجاج ومعادن وأعقاب سجائر وغيرها التي تتخطى أعدادها 10 آلاف قطعة/100ملل على شواطئ بيروت وصيدا وجبيل. وبالنسبة للتلوّث البلاستيكي- وهو معضلة قائمة بحدّ ذاتها- فيشير رعد إلى أن إنتاج البلاستيك السنوي في لبنان ناهز الـ220 ألف طن من أصل 1.57 مليون طن يُنتج سنوياً من جميع أنواع النفايات الأخرى.
الأرقام تثير الرعب والمهمّة شائكة، لا شك. لكن الحلول موجودة شرط توافر الإرادة والقرار. فهل تتّحد النوايا لإنقاذ شواطئ لبنان والتحوّل إلى الاقتصاد الأزرق المستدام؟ للجدّيين من أصحاب القرار، هذا نموذج صريح للتنمية. أما التمادي في تدمير البيئة- بحرية كانت أم خلاف ذلك- فليس سوى إمعان في سياسات قضت على ما قضت وتهدّد ما تبقّى.