من بشارة الخوري إلى سركيس: الجيش يحمي الحدود
كتب نجم الهاشم في “نداء الوطن”:
قبل العام 1978 لم يحصل أن اجتاح الجيش الإسرائيلي لبنان. بعد العام 1973 آخر الحروب العربية الإسرائيلية تغيّرت المعادلة. قبل هذا التاريخ كان الجيش وحده هو الذي يؤمّن حماية الحدود في ظلّ سيادة القرار اللبناني الذي كان يُمثّله رئيس الجمهورية. عندما سقطت سلطة الدولة وحلّت محلّها نظرية «طريق القدس تمرّ في جونيه» سقطت حرمة الحدود… ولا تزال.
على مدى 25 عاماً بين 1948 و1973، بقي لبنان في منأى عن تداعيات الحروب العربية الإسرائيلية. لم تتحرّك جبهات الجنوب مع إسرائيل ولكنّه لم يخسر أرضاً. كان الجيش اللبناني هو الضامن للأمن وكان القرار السياسي في القصر الجمهوري وكان للبنان موقعه داخل جامعة الدول العربية. ولكن بعد العام 1965 بدأت المعادلة تتغيّر مع انطلاق العمليات الفلسطينية المسلحة من لبنان وتأسيس حركة «فتح» وولادة المنظمات الأخرى. كان اتفاق القاهرة في 3 تشرين الثاني 1969 حدّا فاصلاً بين انتهاء مرحلة الإستقرار وبداية مرحلة الإنهيار. منذ العام 1973 صار لبنان جبهة المواجهة الوحيدة المفتوحة. على مدى خمسين عاماً كان عليه أن يتحمّل أعباء هذه الحروب، وأن يدفع ثمن استراتيجية تحويله إلى ساحة صراع، من منظمة التحرير الفلسطينية إلى محور الممانعة الذي يقوده حزب الله ويمتد من الضاحية الجنوبية إلى طهران.
الجيش وحده قاتل في فلسطين
إذا كان الأمين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصرالله هدّد أكثر من مرّة باجتياز الحدود والدخول بقواته العسكرية إلى الجليل والسيطرة على المستوطنات الإسرائيلية في الطريق إلى القدس، فإنّه يُسجَّل للجيش اللبناني في عصر الجمهورية اللبنانية الأولى أنّه الوحيد الذي استطاع في أيار 1948 أن يخرق هذه الحدود ويقاتل في المالكية داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة. وقد خسر في هذه المعركة عدداً من الشهداء أبرزهم النقيب محمد زغيب الذي سُمِّيَت على اسمه ثكنة الجيش اللبناني في صيدا. لم يكن الجيش اللبناني وحده الذي يقاتل ولكنّه كان يقود. صحيح أنّ متطوعين شاركوا في الحرب كأفراد أو كمجموعات غير منظمة، ولكنّ دورهم لم يتخطَّ دور الجيش، وانتهى بانتهاء المعركة خلال أيام. على رغم قدراته المحدودة حيث أنّ عديده لم يكن يتجاوز ستة آلاف جندي، وعلى رغم تجهيزه البسيط بعد عامين فقط على تسلّم اللواء فؤاد شهاب زمام القيادة بعد انسحاب آخر جندي فرنسي، إلا أنّه لم يتوانَ عن القتال من ضمن وحدة الساحات العسكرية والمواجهة الشاملة التي سادتها فوضى في التخطيط انتهت إلى خسارة عربية شاملة، وإلى تثبيت قيام دولة إسرائيل بحدودها الأولى واهتزاز أكثر من نظام عربي. كان هناك جيش واحد وقائد واحد ورئيس واحد ودولة بقرار واحد. ولكن مثل هذا الأمر كان مدعاة للتشكيك بهذه الدولة واتهامها بأنّها متخاذلة ومتردّدة، وأكثر من ذلك بأنّها متواطئة ولا تريد القتال. من الأساس كانت هناك نظرة تخوينية للكيان اللبناني ورئيس جمهوريته وقائد جيشه المارونيين، باعتبار أنّه وليد الإستعمار. كان لبنان بتلك الصورة يُنظَر إليه وكأنّه جسم غريب لا يشبه مَن حوله من الدول العربية الحديثة الولادة. ولذلك بدأ السعي لتحطيم هذه الصورة وتحويل لبنان من دولة متخاذلة، أو دولة مساندة، إلى دولة مواجهة، على رغم أنّ لبنان وقع مع مصر وسوريا والأردن اتفاقيات هدنة تباعاً عام 1949، إلا أنّ لبنان بدا متّهماً بأنّه اختار أن تكون تلك نهاية حروبه مع العدو الإسرائيلي.
تخوين شمعون
ما صحّ مع فؤاد شهاب وبشارة الخوري انطبق أيضاً على رئيس الجمهورية كميل شمعون وفؤاد شهاب الذي كان لا يزال قائداً للجيش. في تشرين الثاني 1956 عندما تعرّضت مصر بقيادة جمال عبد الناصر للإعتداء الثلاثي من إسرائيل وفرنسا وبريطانيا، لم تشترك أي دولة عربية أخرى في القتال الذي بقي محصوراً في جبهة سيناء المصرية. ولكن كان مطلوباً من لبنان أكثر لأن الرئيس كميل شمعون كان متّهما بأنّه ضد سياسة عبد الناصر ويراعي السياسة الأميركية في الشرق الأوسط، على رغم أن القرار الأميركي وقتها هو الذي أنقذ نظام عبد الناصر، وأوقف العدوان الثلاثي، وأعاد سيناء إلى السيادة المصرية، وفرض انسحاب القوات الفرنسية والبريطانية والإسرائيلية منها. صحيح أنّ الرئيس شمعون سارع إلى الدعوة لعقد قمة عربية في لبنان للتضامن مع مصر، وصحيح أنّ القمة انعقدت، ولكن تم تخوين شمعون لأنّه لم يقبل بقطع العلاقات مع فرنسا وبريطانيا وبدأت عملية إسقاط عهده بالقوة.
دبابات نحو الجولان
في حزيران 1967 عندما كانت البيانات الحربية تتوالى متحدّثة عن انتصارات عسكرية على الجبهتين المصرية والسورية، كان الجيش اللبناني ينتشر على الحدود الجنوبية. كل المواقع التي تُذكر اليوم على طول هذه الحدود كان يتمركز فيها الجيش بقيادة العماد إميل البستاني في ظلّ رئاسة الرئيس شارل حلو. طوال عهد الرئيس شهاب، وفي عهد الرئيس حلو، كانت العلاقة ممتازة مع الرئيس المصري عبد الناصر، وكان هناك تنسيق عملاني على مستوى الجيش والمكتب الثاني الذي كان فيه ضباط مكلفون بمهمة التواصل مع ضباط المخابرات المصرية ومع الرئيس عبد الناصر شخصياً. في أحد تلك المراكز العسكرية المواجهة لمستعمرة المطلة، والتي يمكن منها رؤية الحدود السورية الإسرائيلية حتى مرتفعات الجولان، كانت تتمركز قوة من الجيش اللبناني بقيادة ملازم أول. لم يشترك لبنان في تلك الحرب التي دارت على الجبهات السورية والمصرية والأردنية واختارت إسرائيل توقيتها. كانت وحدة الجيش تراقب بالمناظير تحرّكات الجيش الإسرائيلي والجيش السوري الذي كان لا يزال ينتشر في الجولان. عندما كانت تصل إليها أخبار الإنتصار قال الضابط للعسكريين معه «لماذا لا نشارك في هذا النصر ونتقدم ونحتلّ المطلة؟». ولكن الواقع كان مناقضاً للبيانات. قال له أحد الجنود «يا سيدنا، الدبابات الإسرائيلية هي التي تتقدّم باتجاه الجولان». في النتيجة احتلّت إسرائيل الجولان وسيناء وقطاع غزة والضفة الغربية ورسمت خارطة حدودها الثانية. كان عبد الناصر يمثّل منطق محور الممانعة ويرسم طريق التحرير ويهدّد بمحو إسرائيل من الوجود ويطلب سحب القوات الدولية من الحدود. ولكن النتيجة جاءت صادمة. صحيح أنّ لبنان لم يشترك في القتال ولكنه لم يخسر الأرض. ولكن كل ذلك كان كافياً لاتهامه بالتخاذل مع أنّه لو اشترك في الحرب ما كانت النتيجة ستتغيّر وربّما كان خسر أيضاً أرضه.
حرب 1973 وتفكيك الجيش والدولة
لم يشترك لبنان أيضاً في حرب تشرين 1973 التي كان توقيتها بالإتفاق بين مصر وسوريا. كان سليمان فرنجية الجدّ رئيساً للجمهورية والعماد اسكندر غانم قائداً للجيش. اكتفى لبنان بتلبية طلب رئيس النظام السوري حافظ الأسد بتقديم المساعدات اللوجستية والطبية والمحروقات. ولكن قبل اندلاعها كان لبنان بدأ يدخل مرحلة التفتيت وكانت تلك مرحلة انتقالية بين سيطرة الجيش اللبناني على الحدود وخروجه النهائي من المعادلة.
اتفاق القاهرة في 3 تشرين الثاني 1969 كان البداية ومعركة أيار 1973 مع الفلسطينيين كانت المؤشّر إلى تحويل لبنان إلى ساحة. اكتملت هذه العملية مع فرط الجيش خلال الحرب ومع سيطرة المنظمات الفلسطينية على الحدود. كل ذلك أدى إلى هدنة أو سلام على الجبهات المصرية والسورية والأردنية، وإلى بقاء الجبهة اللبنانية مفتوحة، وإلى الإجتياح الإسرائيلي الأول في آذار 1978 على عهد الرئيس الياس سركيس، ثم الإجتياح الثاني في حزيران 1982. قبل ذلك لم يحصل أي اجتياز إسرائيلي للحدود مع لبنان باستثناء العمليات التي نفّذتها وحدات إسرائيلية داخل لبنان رداً على عمليات فلسطينية انطلقت منه. تكرار الخطأ والخطر
منذ العام 2000 أعاد «حزب الله» بناء استراتيجية المواجهة بغياب قرار السلطة الشرعية والجيش اللبناني. حرب تموز 2006 كانت ضمن هذا الإطار والقرار 1701 لم يبدِّل في الوضع كثيراً. صحيح أنّ الجيش اللبناني انتشر في الجنوب إلى جانب القوات الدولية المعزّزة ولكن قرار السلطة الشرعية بقي غائباً. أراد «حزب الله»، كما يحصل منذ 7 تشرين الأول، أن تكون هذه السلطة مع الجيش في خدمة استراتيجيته وأهدافه وأراد تحويل الجيش إلى قوة دعم ومساندة له، أو إلى صليب أحمر يعمل على نقل الجرحى والقتلى من ساحة المعركة، من دون أن يكون له دور في القتال ومن دون أن يخرج من ساحة الحرب.
مرّة جديدة يتعرّض لبنان لاحتمال اجتياح إسرائيلي جديد في حرب مفتوحة مع الحزب الذي يريد أن يطبِّق استراتيجية وحدة الساحات. ومرة جديدة يظهر أن الجيش سيجد نفسه منخرطاً في المعركة التي لم يقرّرها ولم يختَرْها. يحصل كل ذلك بينما الجيش يواجه أزمة على صعيد القيادة مع اقتراب موعد إحالة قائده العماد جوزاف عون إلى التقاعد في 10 كانون الثاني المقبل، بحيث يمكن أن يصير لبنان من دون رئيس للجمهورية ومن دون قائد للجيش، والموقعان حميا حدود لبنان من كل اجتياح عندما كانت الدولة سيّدة قرارها، ولو بالحدّ الذي يتيح لها اتخاذ قرار الحرب والسلم، تبعاً لمقتضيات المصلحة الوطنية ولتوازن القوى ولقدرات الجيش. لعلّ سلاح الدبلوماسية كان أمضى من السلاح العسكري ولعلّ حماية لبنان كانت نتيجة نظامه السياسي وليس نتيجة أيّ قوة عسكرية سواء أكانت فلسطينية أم تابعة لمحور الممانعة و»حزب الله» الذي يعيد اليوم مضطراً فتح الحدود أمام تنظيمات كان يلاحقها ويختلف معها.