جنوبيو الحدود تأقلموا مع “الحرب”: هذه إسرائيل التي خبرناها
كتبت آمال خليل في “الأخبار”:
أعاد العدوان الإسرائيلي المستمر على القرى الحدودية الجنوبية خلط الحياة اليومية للمقيمين في منطقة جنوبي الليطاني. خبرة الجنوبيين بالعدوّ تساعدهم على التأقلم مع حال اللاسلم واللاحرب، والتحايل على خطوط التماس.
لم ينزح ربيع من العديسة بعد تصاعد القصف الإسرائيلي على بلدته، ولم ينقطع عن عمله في مستشفى مرجعيون الحكومي. معظم الطرقات المحيطة صارت خطوط تماس؛ شمالاً باتجاه كفركلا وجنوباً باتجاه مركبا وحولا، وغرباً باتجاه وادي الحجير – السلوقي. بعدما تحوّل شارع «البوليفار» المكشوف أمام مستعمرات مسكفعام وكريات شمونة والمطلّة إلى خط تماس في الليل والنهار، استبدله بطريق أكثر أمناً وأطول. الدقائق العشر التي كانت تستغرقها الرحلة أصبحت نحو ساعة، وهي تبدأ من الطيبة وتلة الشومرية، نزولاً إلى جسر الليطاني، ثم صعوداً إلى بلدات النبطية ومنها إلى الخردلي وتل النحاس، وصولاً إلى مرجعيون. احتاج ابن الأعوام الـ 23 إلى وقت ليعتاد على الواقع الجديد. فهو لم يعرف سوى الجنوب المحرّر الذي لا يأبه سكانه بالموقع الإسرائيلي الذي يبعد عشرات الأمتار. أما كوثر بعلبكي، التي رفضت النزوح عن بلدتها، فقد سبق أن عايشت حالة اللااستقرار في العديسة منذ طفولتها. تقول إن «التاريخ يكرّر نفسه. أشعر كأننا في الفترة بين الثلاثينيات والسبعينيات» من القرن الماضي. رغم ذلك، تستعرض لائحة طويلة من الفروقات بين الأمس واليوم في التصدي للعدو. تنقل عن والدها كيف كان الجنود الصهاينة في موقع مسكفعام يرهبون الأهالي بمجرد توجيه كشاف ضوئي على العديسة، فيما اليوم شاهدت بنفسها كيف أعمت المقاومة أجهزة التجسس والمراقبة في الموقع نفسه.
زبائن الدكان الذي تملكه بعلبكي في ساحة العديسة المقابلة لمسكفعام تضاءلوا تدريجياً منذ الثامن من تشرين الأول الماضي، مع بدء النزوح، ولم يبقَ منهم سوى قلّة بعد الغارات المعادية التي استهدفت البلدة. تشكو من «صعوبة التنقل ومن الوحشة التي يشعر بها حتى الكلاب والقطط». دكانها هو الوحيد الذي لا يزال يفتح أبوابه.
في بلدة الطيبة المجاورة، التي صُنّفت آمنة في المرحلة الأولى من العدوان، قبل الهدنة، سجلت موجات نزوح في الجولة الثانية بعدما طاول القصف بعض أحيائها. سعاد رسلان تستعيد أيضاً مرحلة الستينيات والسبعينيات: «كان أهلي يتحركون صباحاً، ينجزون أعمالهم في الزراعة والرعي ويتزوّدون بحاجياتهم، قبل أن يلتزموا بيوتهم منذ ما بعد الظهر إلى صباح اليوم التالي. بعد خمسين عاماً، نعيش الوضع نفسه». انعزلت الطيبة عن البلدات الحدودية المحيطة بها، «وإذا اشتهى أحدنا تناول اللحم، عليه أن يقصد أقرب ملحمة مفتوحة عند جسر الليطاني، على بعد كيلومترات عدة».
جسر الليطاني، بين قعقعية الجسر وفرون، عاد «معبراً». قبل تحرير الجنوب عام 2000، كانت الغندورية وبرج قلاويه ومجدل سلم وخربة سلم وشقرا وبرعشيت (…) خطوط تماس ينتقم منها العدو الإسرائيلي بالقصف بعد كل عملية للمقاومة. من بقي في بلدات الشريط المحتل المقابل، من دير سريان والطيبة إلى القصير والقنطرة ومركبا وحولا وميس الجبل وبليدا وعيترون (…)، كان يواسي أقرباءه المهجّرين إلى المقلب الآخر. أخيراً، انقلبت الآية، وتحوّلت بلدات الحدود إلى خطوط تماس تتلقّى القصف.
للمرة الثالثة طوال سنواته الخمس والثمانين، نزح محمود فقيه من بلدته رب ثلاثين إلى صريفا. المرة الأولى كانت عام 1996 عندما اعتقله جيش العملاء لإجباره على التعامل معهم. ترك وراءه ماشيته وحقله وتسلّل إلى خارج المنطقة المحتلة نزولاً إلى وادي الحجير، ومنها إلى صريفا. كان نجله علي قد سبقه إلى صريفا بعدما بلغ سنّ الخدمة الإجبارية في جيش لحد. «هرّبته بعنزتين رشيت بهما أحد العملاء من عناصر المعبر». بعد أربع سنوات، كان فقيه ضمن مسيرة التحرير التي توجّهت من الغندورية إلى بوابة القنطرة في 19 أيار 2000. أعاد ترميم منزله واستحدث مزرعة مواشٍ كبيرة. في عدوان 2006 دُمّرت المزرعة ونزح بداية إلى صريفا مجدداً، ثم إلى بيروت. قبل نحو شهر، نزح فقيه للمرة الثالثة إلى صريفا، وجهته الثابتة حيث شيّد ابنه منزلاً وأسس عائلة وصار يزور مسقط رأسه في العطل. ورغم أن رب ثلاثين غير محاذية للشريط الشائك، إلا أنها تعرضت منذ بداية العدوان لاستهداف مباشر لمنازلها، ما أجبر كثيرين على النزوح. لا يخفي فقيه غضبه من اضطراره إلى النزوح بعد سبعة عشر عاماً من الأمان الذي فرضته المقاومة منذ عام 2006: «أعرف إسرائيل منذ عصابات الهاغانا. عايشت كل فصائل المقاومة العربية والفلسطينية واللبنانية في محور رب ثلاثين – الطيبة – عدشيت القصير، حتى التحرير. حسبت حساب غدر إسرائيل التي لن تتركنا في حالنا. لكني لم أحسب حساب أزمة شديدة تجبرنا على مغادرة منازلنا». ويستدرك قائلاً بأن الأزمة على قسوتها «أخفّ مما عايشناه. فلا أزال قادراً على الذهاب لتفقد منزلي بين حين وآخر».