تجّار سوريّون يتوسّعون بقوّة في لبنان
كتبت رماح هاشم في “نداء الوطن”:
التهريب ليس بملف جديد في لبنان، فالمسألة موجودة منذ وجود البلد، إلا أن الأزمة الإقتصادية والمالية أدت إلى تعميق جذوره وإتّساعه أكثر فأكثر بمختلف أشكاله وتحت نظر السلطات المعنية وتواطؤ مسؤولين يغطّون هذه الشبكات، خصوصاً بعد تدني الوضع المعيشي وإنكفاء يد الدولة نتيجة تراجع قدراتها الإدارية. ومن ظنّ أن تنفيذ التهريب خطِر ومعقّد، فأكيد أنه ليس في لبنان، فالموضوع سهل وبسيط إذ يكفي معرفة المسؤول عن المعبر البري أو في المرفأ لرشوته وتمرير البضائع، وغالباً ما يكون هؤلاء من الرؤوس الصغيرة المعروفة من قبل الرؤوس الكبيرة.
ولم يعد الأمر يقتصر على التجار اللبنانيين الذين يعملون في هذا الإطار، بل دخل التاجر السوري على الخط وزاد «الطين بلة»، مما جعل السوق السوداء تتسع لتطغى على التجارة الشرعية بصورة ملحوظة، وهذا الواقع يطال مختلف المناطق اللبنانية، ويتشارك فيها على الجهتين تجار لبنانيون وسوريون. وتؤكد مصادر تجارية لبنانية ان في السوق حالياً عشرات كبار التجار السوريين ينافسون كبار التجار اللبنانيين. يستورد هؤلاء عبر شركات وهمية ويدفعون الرشاوى في المرافئ والمعابر مستغلين شبكة علاقات تغطيهم تبدأ من مستوى معين في السلطات الادارية والوزارية والامنية احياناً. ولدى مراجعة السلطات العليا يأتي الجواب ان لا دليل ملموساً على ذلك ما يشي بتواطؤات واضحة مقابل رشاوى. ويحظى تجار سوريون بتغطيات سياسية احياناً. ويبدو ان الوزارات المعنية مثل الاقتصاد والمالية تقف متفرجة على واقع يتفشى ويترسخ كل يوم. وتضيف المصاد انه صار للتجار السوريين مخازن ويقبلون بربح قليل لان كلفتهم متدنية بسبب سلوك البضائع طرقاً غير شرعية.
على أرض الواقع
مصادر بقاعية مطّلعة على الملف تكشف لصحيفة «نداء الوطن» أن «التقديرات تظهر أن 25% من النشاط الإقتصادي في محافظة البقاع ممسوك من قبل السوريين. وإن دخلنا في التفاصيل يتبيّن أن هؤلاء يسيطرون على 70% من تجارة الخضار في المنطقة. في قضاء زحلة، يشكّل السوريون 65% من إجمالي عدد سكان بر الياس. والنشاط الإقتصادي لتجار المفرق أو الجملة السوريين مركّز في منطقتي برّ الياس والمرج، حيث تتجاوز نسبتهم الـ 75%. وتنتشر البضائع السورية المهرّبة، حيث يأتي أصحاب الدكاكين الصغيرة المجاورة لتتبضّع منها. هذه البضائع كلّها غير الخاضعة للجمارك ولا للضريبة على القيمة المضافة تحرم خزينة الدولة من مردود إضافي، كما أن هذا الواقع يوسّع الشبكة الإقتصادية غير الشرعية المرادفة للشبكة اللبنانية الشرعية فيلحق الضرر بالصناعة المحلية والشرعية التي تُنافس من قبل الصناعة السورية، ويتأثّر أيضاً التاجر اللبناني الذي صار امام منافسة شديدة».
إقتصاد ضمن آخر
وتتحدّث المصادر عن «نشاط تجاري من نوع آخر يمارسه السوريون، حيث هناك بعض التجار تصلهم بضائع من بلدان مختلفة يستلمونها في لبنان ويعيدون تصديرها إلى سوريا او يسوقونها في لبنان، ما أدّى إلى نشوء إقتصاد ضمن آخر، في حين أن الدولة غائبة ولا أجهزة لديها للمراقبة. فحجم الخروقات يفوق قدرة الأجهزة المتوافرة لملاحقتها، ولا قرار حازماً من الدولة لضبط الملف، فلو كانت النية موجودة لتم لجم التجارة غير الشرعية عبر عدد قليل من العناصر الأمنية المصممة على كبح هذه الآفة. فيما هناك مسايرة وميوعة من قبل السلطات المحلية في التعامل مع القضية».
ولا تنسى المصادر التطرق إلى موضوع المهن الحرّة والحرفية من نجارة، حدادة، واعمال بناء… إذ باتت بنسبة 95% في يد السوريين، لا سيما في مناطق تشهد كثافة سكانية سورية كبيرة أعدمت فيها قدرة اليد العاملة اللبنانية على العمل.
ماذا يحصل في مرفأ طرابلس؟
وتتطرّق المصادر البقاعية إلى نوع آخر من التهريب يتم عبر مرفأ طرابلس، إذ هناك ما يسمّى بـ»خطّ الرورو»، وهو تهريب يتم على خطّ تركيا تحديداً، إذ إن البضائع التي تستورد منها محتكرة من قبل شركة واحدة تمتلك بواخر الرورو ومحسوبة على أحد السياسيين. البضائع المستوردة من قبل هذه الشركة ليست لها، إنما بعض التجار يشحنون عبرها. فتقوم بمانيفست للتصريح عن صنف من البضائع معفي من الضرائب أو نسبة الجمرك عليه ضئيلة، إلا أن حقيقة الشحنة من صنف آخر أو حتى محمّلة ببضائع ممنوعة من دخول الأراضي اللبنانية. ما يحصل عملياً هو أن «شركة الرورو» تحمّل شاحنات «التريلر» بصنف ما وتضع الصنف المصرّح عنه في آخر الشاحنة لتراها الجمارك عند التفتيش من دون إفراغ الشحنة كلّها، لأنها تحصل على رشاوى، كذلك تمرر الشحنة شكليّاً عبر السكانر الذي يتم تعطيله، بالتالي تخضع الشحنة كلّها للبضائع الظاهرة».
وفي مرفأ بيروت
والفساد لا يطال فقط مرفأ طرابلس، بل هو موجود أيضاً عبر مرفأ بيروت، دائماً حسب المصادر التي تؤكّد ان التجار السوريين يعتمدون على شركات وهمية للتهرب من الضرائب، فتستوفي الأخيرة الضريبة على القيمة المضافة من المواطن وتعود وتلغي الشركة من دون أن تدفع بدورها للدولة. عادةً ما يكون عمر هذه الشركات سنة واحدة ويتم استخدام أشخاص ليس لديهم ما يخسرونه ولا يملكون أي شيء فيسجلون شركة باسمهم بغرض التهرب الضريبي، وهناك مخلّصون جمركيون مختصون ومعروفون في هذا الملف يغطون على الشركات الوهمية ويسهلون نشاطها. في حال قررت الدولة ضبط التهرب الضريبي الهائل بمختلف أشكاله لا يعود هناك من حاجة لفرض ضرائب جديدة على المواطنين ولا على الشركات الشرعية، كما تؤكد المصادر.
وتشرح المصادر أن السلطات التي تدير المرفأ أربع: أوّلاً، وزارة الأشغال المسؤولة عن كل ما يتعلّق بالأرصفة والمستودعات (إدارة إملاك الدولة تابع لوزارة الأشغال)، وهناك جهاز إدارة المرفأ الذي يتقاضى الرسوم على ترصيف البواخر والتخزين في العنابر. السلطة الثانية هي الجمارك التابعة لوزارة المالية وتعنى بجمركة البضائع والتحقق من مطابقتها للفواتير. أما السلطة الثالثة فهي الأمن العام، الذي يوثّق دخول وخروج الأشخاص عبر المرفأ ولا علاقة له بالبضائع. وأخيراً تأتي سلطة الجيش الممثّلة بمديرية المخابرات، وفي كل مرفأ لديها مكتب وسلطة التحقق من أي خبر أو نشاط تصلها إخبارية حوله، فيحقّ للجيش التدخل بمهام السلطات الثلاث الأخرى.
وضع التجارة السورية شمالاً
وفي السياق نفسه، يصرّح تاجر شمالي لـ»نداء الوطن» عن وضع التجارة السورية غير الشرعية شمالاً، مشيراً إلى أن «السوريين متواجدون في أغلب المدن اللبنانية، إلا أن النسبة الأكبر منهم مركّزة شمالاً، لا سيما في عكار وطرابلس، وهي مدن سكانها على صلة قرابة مع السوريين، مما يعزّز شعور الأخيرين بالانتماء إلى لبنان»، مشدداً على أنه لا ينظر «بعنصرية إلى هذا الملف، ونعتبر أنفسنا معنيين إنسانياً بمساعدتهم، غير أن معاناة اللبنانيين تتفاقم وأصبحوا هم أيضاً بحاجة إلى مساعدة».
الوضع لم يعد يحتمل
ويضيف: «الوضع لم يعد يحتمل على أكثر من مستوى، لا سيما المستوى التجاري حيث جاءت هجمة التجار السوريين لمزاولتهم أعمالاً تجارية مختلفة، فباتوا يستأجرون مؤسسات تجارية ويتأقلمون مع الظروف مهما كانت صعبة. فهم يرضون بأرباحهم بغض النظر عن حجمها على عكس التاجر اللبناني، ما يزيد من نسبة المنافسة المعززة أيضاً بالدعم المالي الأممي».
وفي ما يتعلق بأعداد التجار السوريين شمالاً، يوضح التاجر أن «ما من إحصائيات دقيقة حولها، لكن في طرابلس فقط يقدّر العدد بالآلاف يتاجرون ببضائع متنوعة مثل الخضار والأدوات المنزلية والكهربائية والمفروشات… بالتأكيد العدد الأكبر يزاول نشاطه بطريقة غير شرعية، والدليل أن عدد المسجلين منهم في غرفة التجارة ضئيل جدّاً».
ويتابع: «من المؤكد أن جرأة هؤلاء التجار كبيرة ومالهم يحميهم، فهم يدفعون رشاوى، وهناك مواطنون مدنيون عاديون يشكلّون صلة وصل بين التجار غير الشرعيين والمسؤولين لتغطيتهم. وهنا المسؤولية تقع على جميع الأجهزة الأمنية، فالأمن العام مسؤول بالدرجة الأولى عن التأكد من شرعية إقامة أي شخص في لبنان، أما مسؤولية الجمارك فتتعلق بدخول البضائع، حيث يفترض خضوع تلك المستوردة للضريبة وفق الاصول. باختصار، القضية اتسعت كثيراً وتشعّبت، في ظلّ الوضع الصعب في الوزارات والدوائر الرسيمة التي لم يعد لديها القدرات الإدارية الرسمية والقانونية».
وزارة الأشغال متواطئة؟
وفي السياق نفسه، يكشف مصدر رسمي لـ»نداء الوطن» أن «آلاف العمال السوريين يزاولون أعمالاً عدة في لبنان، بدءاً من البسطة، مروراً بالمحلات، وصولاً إلى التجارة. لكن الخطر الأكبر اليوم هو ما يحصل في مرفأ طرابلس بالتواطؤ ما بين وزارة الأشغال العامة وسياسيين شماليين وتجار، حيث تستورد وتصدر البضائع عبر المرفأ إلى سوريا، فبعض البضائع تدخل على أساس أنها موجّهة إلى الأسواق اللبنانية ليتم فعليّاً تصديرها إلى سوريا». ولا يستبعد المصدر «وجود شركات وهمية تستورد البضائع، لكن وجودها غير مؤكّد مئة في المئة، ولا يمكن التأكد من أن الشركة مسجلة إلا عبر الاطّلاع على ملفات وزارة الاقتصاد».
دبوسي: الوضع متفلت
من جانبه، يعلّق رئيس «غرفة التجارة والصناعة والزراعة في طرابلس ولبنان الشمالي» توفيق دبوسي على قضية التجار غير الشرعيين، معيداً التأكيد على «تواجدهم في لبنان، خصوصاً وسط الأرقام المقدّرة حول وجود ما يقارب المليوني سوري في لبنان، الأمر الذي سيولّد حتماً مشاكل بحيث سيلجأ هؤلاء إلى مزاولة أعمال مختلفة حتى ولو كانت بشكل غير شرعي»، لافتاً إلى أنه «ليس من الضروري بأن تكون البضائع مهرّبة من سوريا. فلنكن واقعيين، إن الصناعة اللبنانية تمتاز بجودة عالية وأسعارها مقبولة. لذا، أغلب البضائع مصنّعة محلّياً، وما يقوم به بعض التجار السوريين هو نقلها من المصنّع إلى المستهلك».
وعن تسوية أوضاع التجار المخالفين، يشير دبوسي خلال حديث مع «نداء الوطن» إلى أن «التواصل اليوم مع أي وزارة معنية يأتينا بردّ موحّد وهو أن لا إمكانيات كافية لديهم لمتابعة هذا الملف، لا سيما في ظلّ عدم دوام الموظفين. فالوضع متفلّت وإدارة البلد بأكملها تعاني من رأس الهرم، وصولاً إلى أصغر سلطة».